فصل: التفسير المأُثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا}.
والتسخير كما علمنا من قَبْل هو إيجاد الكائن لمهمة لا يستطيع الكائن أنْ يتخلَّف عنها، ولا اختيارَ له في أنْ يؤدِّيها أو لا يُؤدِّيها، ونعلم أن الكون كله مُسخَّر للإنسان قبل أنْ يُوجدَ؛ ثم خلق الله الإنسان مُخْتارًا.
وقد يظن البعض أن الكائنات المُسخَّرة ليس لها اختيار، وهذا خطأ؛ لأن تلك الكائنات لها اختيار حَسمتْه في بداية وجودها، ولنقرأْ قوله الحق: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: 72].
وهكذا نفهم أن الحق سبحانه خيَّر خلقه بين التسخير وبين الاختيار، إلا أن الكائنات التي هي ما دون الإنسان أخذتْ اختيارها مرَّة واحدة؛ لذلك لا يجب أنْ يُقال: إن الحق سبحانه هو الذي قهرها، بل هي التي اختارتْ من أول الأمر؛ لأنها قدرتْ وقت الأداء، ولم تقدر فقط وقت التحمل كما فعل الإنسان، وكأنها قالت لنفسها: فلأخرج من باب الجَمال؛ قبل أن ينفتحَ أمامي باب ظلم النفس.
ونجد الحق سبحانه يصف الإنسان: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72].
فقد ظلم الإنسانُ نفسَه حين اختار أنْ يحملَ الأمانة؛ لأنه قدر وقت التحمُّل ولم يقدر وقت الأداء، وهو جَهُول لأنه لم يعرف كيف يُفرِّق بين الأداء والتحمُّل، بينما منعت الكائنات الأخرى نفسها من أن تتحمَّل مسئولية الأمانة، فلم تظلم نفسها بذلك.
وهكذا نصل إلى تأكيد معنى التسخير وتوضيحه بشكل دقيق، ونعرف أنه إيجاد الكائن لمهمة لا يملك أن يتخلَّف عنها؛ أما الاختيار فهو إيجاد الكائن لِمُهِمة له أنْ يُؤدِّيها أو يتخلَّف عنها.
وأوضحنا أن المُسخَّرات كان لها أنْ تختارَ من البداية، فاختارتْ أن تُسخِّر وألاَّ تتحملَ الأمانة، بينما أخذ الإنسان المهمةَ، واعتمد على عقله وفِكْره، وقَبِل أن يُرتِّب أمور حياته على ضوء ذلك.
ومع ذلك أعطاه الله بعضًا من التسخير كي يجعل الكون كله فيه بعض من التسخير وبعض من الاختيار؛ ولذلك نجد بعضًا من الأحداث تجري على الإنسان ولا اختيارَ له فيها؛ كان يمرضَ أو تقع له حادثة أو يُفلس.
ولذلك أقول: إن الكافر مُغفّل لاختياره؛ لأنه ينكر وجود الله ويتمرَّد على الإيمان، رغم أنه لا يقدر أن يصُدَّ عن نفسه المرض أو الموت.
وفي الآية التي نحن بصددها الآن يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر} [النحل: 14].
فهذا يعني أنه هو الذي خلق البحر، لأنه هو الذي خلق السماوات والأرض؛ وجعل اليابسة ربع مساحة الأرض؛ بينما البحار والمحيطات تحتل ثلاثة أرباع مساحة الأرض.
أي: أنه يُحدِّثنا هنا عن ثلاثة أرباع الأرض، وأوجد البحار والمحيطات على هيئة نستطيع أن نأخذَ منها بعضًا من الطعام فيقول: {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14].
ومن بعض عطاءات الحق سبحانه أن يأتي المَدُّ أحيانًا ثم يَعْقبه الجَزْر؛ فيبقى بعض من السمك على الشاطيء، أو قد تحمل موجة عفيّة بعضًا من السمك وتلقيه على الشاطئ.
وهكذا يكون العطاء بلا جَهْد من الإنسان، بل إن وجودَ بعض من الأسماك على الشاطيء هو الذي نبَّه الإنسان إلى أهمية أنْ يحتالَ ويصنع السِّنارة؛ ويغزل الشبكة؛ ثم ينتقل من تلك الوسائل البدائية إلى التقنيّات الحديثة في صيد الأسماك.
لكن الحلية التي يتم استخراجها من البحر فهي اللؤلؤ، وهي تقتضي أن يغوصَ الإنسان في القاع ليلتقطها، ويلفتنا الحق سبحانه إلى أسرار كنوزه فيقول: {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى} [طه: 6].
وكل كنوز الأمم توجد تحت الثَّرى، ونحن إنْ قسمنا الكرة الأرضية كما نقسم البطيخة إلى قِطَع كالتي نُسمِّيها شقة البطيخ سنجد أن كنوز كل قطعة تتساوى مع كنوز القطعة الأخرى في القيمة النفعية؛ ولكن كُلّ عطاء يوجد بجزء من الأرض له ميعاد ميلاد يحدده الحق سبحانه.
فهناك مكان في الأرض جعل الله العطاء فيه من الزراعة؛ وهناك مكان آخر صحراوي يخاله الناس بلا أيِّ نفع؛ ثم تتفجَّر فيه آبار البترول، وهكذا.
وتسخير الحق سبحانه للبحر ليس بإيجاده فقط على الهيئة التي هو عليها؛ بل قد تجد له أشياء ومهام أخرى مثل انشقاق البحر بعصا موسى عليه السلام؛ وصار كل فِرْق كالطَّوْد العظيم.
ومن قبل ذلك حين حمل اليَمَّ موسى عليه السلام بعد أن ألقتْه أمه فيه بإلهام من الله: {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} [طه: 39].
وهكذا نجد أن أمرًا من الله قد صدر للبحر بأن يحملَ موسى إلى الشاطيء فَوْر أنْ تُلقيَه أمه فيه.
وهكذا يتضح لنا معنى التسخير للبحر في مهام أخرى، غير أنه يوجد به السمك ونستخرج منه الحُليّ، ونعلم أن ماء البحر مالح؛ عكس ماء النهر وماء المطر؛ فالمائيّة تنقسم إلى قِسْمين؛ مائية عَذْبة، ومائية مِلْحية.
وقوله الحق عن ذلك: {وَمَا يَسْتَوِي البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12].
ويسمُّونهم الإثنين على التغليب في قوله الحق: {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19].
والمقصود هنا الماء العَذْب والماء المالح، وكيف يختلطان، ولكن الماء العَذْب يتسرَّب إلى بطن الأرض، وأنت لو حفرتَ في قاع البحر لوجدتَ ماء عَذْبًا، فالحق سبحانه هو الذي شاء ذلك وبيَّنه في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض} [الزمر: 21].
وهنا يقول سبحانه: {وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14].
واللحم إذا أُطلِق يكون المقصود به اللحم المأخوذ من الأنعام، أما إذا قُيّد بلحم طري فالمقصود هو السمك، وهذه مسألة من إعجازية التعبير القرآني؛ لأن السمك الصالح للأكل يكون طَرّيًا دائمًا.
ونجد مَنْ يشتري السمك وهو يَثْني السمكة، فإنْ كانت طريَّة فتلك علامةٌ على أنها صالحةٌ للأكل، وإنْ كانت لا تنثني فهذا يعني أنها فاسدة، وأنت إنْ أخرجتَ سمكة من البحر تجد لحمها طَرِّيًا؛ فإنْ ألقيتَها في الماء فهي تعود إلى السباحة والحركة تحت الماء؛ أما إن كانت ميتة فهي تنتفخ وتطفو.
لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل السمك الطَّافي لأنه المَيْتة، وتقييد اللحم هنا بأنه طريّ كي يخرجَ عن اللحم العادي وهو لَحْم الأنعام؛ ولذلك نجد العلماء يقولون: مَنْ حلفَ ألاَّ يأكل لَحْمًا؛ ثم أكل سمكًا فهو لا يحنث؛ لأن العُرْف جرى على أن اللحم هو لَحْم الأنعام.
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية عن تسخير البحر: {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14].
وهكذا نجد أن هذه المسألة تأخذ جهدًا؛ لأنها رفاهية؛ أما السمك فقال عنه مباشرة: {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14].
والأكْل أمر ضروري لذلك تكفّله الله وأعطى التسهيلات في صَيْده، أما الزينة فلكَ أنْ تتعبَ لتستخرجه، فهو تَرَفٌ، وضروريات الحياة مَجْزولة؛ أما تَرَف الحياة فيقتضي منك أنْ تغطسَ في الماء وتتعبَ من أجله.
وفي هذا إشارة إلى أن مَنْ يريد أنْ يرتقيَ في معيشته؛ فَلْيُكثِر من دخله ببذل عرقه؛ لا أنْ يُترِف معيشته من عرق غيره.
ويقول سبحانه: {تَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14].
والحِلْية كما نعلم تلبسها المرأة، والمَلْحظ الأدنى هنا أن زينةَ المرأة هي من أجلْ الرجل؛ فكأن الرجلَ هو الذي يستمتع بتلك الزينة، وكأنه هو الذي يتزّين. أو: أن هذه المُسْتخرجات من البحر ليست مُحرَّمة على الرجال مِثْل الذهب والحرير؛ فالذهب والحرير نَقْد؛ أما اللؤلؤ فليس نَقْدًا.
واللبس هو الغالب الشائع، وقد يصِحّ أنْ تُصنعَ من تلك الحلية عَصًا أو أي شيء مما تستخدمه.
ويتابع سبحانه في نفس الآية: {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14].
ولم تكُن هناك بواخر كبيرة كالتي في عصرنا هذا بل فُلُك صغيرة، ونعلم أن نوحًا عليه السلام هو أول مَنْ صنع الفُلْك، وسَخِر منه قومه؛ ولو كان ما يصنعه أمرًا عاديًا لَمَا سَخِروا منه.
وبطبيعة الحال لم يَكُنْ هناك مسامير لذلك ربطها بالحبال؛ ولذلك قال الحق سبحانه عنه: {وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13].
وكان جَرْي مركب نوح بإرادة الله، ولم يكُنْ العلْم قد تقدَّم ليصنع البشر المراكب الضخمة التي تنبّأ بها القرآن في قوله الحق: {وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام} [الرحمن: 24].
ونحن حين نقرؤها الآن نتعجَّب من قدرة القرآن على التنبؤ بما اخترعه البشر؛ فالقرآن عالم بما يَجِدّ؛ لا بقهريات الاقتدار فقط؛ بل باختيارات البشر أيضًا.
وقول الحق: {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14].
والمَاخِر هو الذي يشق حلزومه الماء، والحُلْزوم هو الصدر، ونجد مَنْ يصنعون المراكب يجعلون المقدمة حادةً لتكون رأس الحربة التي تشق المياه بخرير.
وفي هذه الآية امتنَّ الحق سبحانه على عباده بثلاثة أمور: صيد السمك، واستخراج الحُليّ، وسَيْر الفلْك في البحر؛ ثم يعطف عليهم ما يمكن أن يستجدّ؛ فيقول: {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [النحل: 14].
وكأن البواخر وهي تشقّ الماء ويرى الإنسان الماء اللين، وهو يحمل الجسم الصَّلْب للباخرة فيجد فيه متعة، فضلًا عن أن هذه البواخر تحمل الإنسانَ من مكان إلى مكان.
ويُذيِّل الحق سبحانه الآية بقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14].
ولا يُقال ذلك إلا في سَرْد نعمة آثارُها واضحة ملحوظة تستحقّ الشكر من العقل العادي والفطرة العادية، وشاء سبحانه أنْ يتركَ الشُّكر للبشر على تلك النعم، ولم يُسخرهم شاكرين. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14] وقال في سورة الملائكة: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر: 12].
وفي هذه الآية ثلاث سؤالات: الأول: لم أخر المجرور وفي سورة النحل فقيل: {مَوَاخِرَ فِيهِ} وقدم في السورة الأخرى فقيل: {فِيهِ مَوَاخِرَ}؟ والثاني: زيادة الواو في قوله: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} في سورة النحل وسقوطها في سورة الملائكة؟، والثالث: زيادة {منه} في سورة النحل في قوله: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وسقوط ذلك في سورة الملائكة؟
والجواب عن الآول: أن أية النحل بنيت على تاخير المجرورات عما تعلقت به، وجرى الكلام جريا واحدا للتناسب والتشاكل، فقيل: لتأكلوا منه، وتستخرجوا منه، ومواخرفيه.ولو قيل هنا: فية مواخر وتقدم المجرور على العامل فبه وهو مواخر اسم فاعل مجموع من المخر وهو شق السفينة الماء بحيزومها لما ناسب ما تقدم مما بنيت الآية عليه وتقدم في المجرورين قبله.
أما اية الملائكة فمبنية على تقدم المجرور على ما به تعلق قال تعالى: {ومن كل تاكلون لحما طريا}، وتأكلون العامل في المجرور الذي هو كل متاخر عنه، فناسب ذلك تأخر العامل أيضا في المجرور الثاني ليتناسب الكلام ببناء أخره على ما بنى أوله ولم يكن ليصح ما لا يتناسب.
والجواب عن السؤال الثانى: أن أية النحل مبنية على قصد الاعتبار وتعداد النعم وقد اجتمع في قوله تعالى: {وهو الذي سخر البحر} الآية، مجموع الآمرين من الاعتبار وابداء النعمة بتسخير البحر وأكل اللحم الطرى منه واخراج الحلية للباس ومخر السفن اياه للمنافع والاكتساب، فهذهنعم جليلة، وفى كل منها مجال للاعتبار ومتسع للتفكير والنظر، فلما كان من مقصود هذهالآية تعداد النعم ناسب ذللك عطف بعضها على بعض لانه مظنة اطناب وتفصيل، فقيل: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضله} [النحل: 14]، والمجرور متعلق بفعل التسخير، واستخراج الحلية، وجرى السفن والابتغاء من فضل الله.
وأما أية سورة الملائكة فبينت على ابداء القدرة وجليل الحكمة ألا ترى قوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] ثم قال: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12] فهذامقصود به الاعتباروالتعريف بانفراده سبحانه بخلق ذلك ابداء النعم وجليل الاحسان، ولكن مقصود الآية وبناءها على ما ذكرنا، ثم تجرد باقى الكلام للتعريف بالانعام والامتنان فقال تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر: 12] فتعلق المجرور الذي هو لتبتغو باسم الفاعل المجموع اى سخرة للابيتغاء من فضلة، فالابتغاء هنا منجر طي الكلام، والامتناء مقصود، ألا ترى أن مخر السفن كأنه ليس لشيء الا للابتغاء، فلما تعلقت اللام بمواخر من حيث تحمل اللفظ معنى الفعل لم يصح دخول الواو، ولم يكن كأية النحل، فافترق القصدان، ولم يلائم كلا من الموضعين الا الوارد فيه.
والجواب عن السؤال الثالث: أن معنى الكلام في قوله: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12] مستقل، لا ابهام فيه ولا احتمال لآن تقدير الكلام: من كل البحر أكلكم واستخراج الحلية للباس فالكلام في قوة المبتأوالخبر، لايوهم خلاف ما ذكر، وأما قوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] فلو سقط هنا المجرور الذي هو {منه} لكان مجالا للاحتمال، لو قيل: وتستخرجوا حلية لم يكن بالنص في أن استخراج الحلية من البحر وان كان ظاهرا الا أن هذا القدر من الاحتمال منقدح هنا وغير منقدح في أية الملائكة لآنة لا انقداح فيها للاحتمال فورد كل على ما يجب، والله واعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}.
سخر البحر في الظاهر، وسهّل ركوبه في الفُلْك، ويَسَّر الانتفاع بما يستخرج منه من الحُلِيِّ كاللؤلؤ والدُّرِّ، وما يقْتَاتُ به من السمك وحيوان البحر.
ومن وجوه المعاني خلق صنوفًا من البحر، فقومٌ غَرْقَى في بحار الشغل وآخرون في بحار الحزن، وآخرون في بحار اللهو. فالسلامةُ من بحر الشغل في ركوب سفينة التوكل، والنجاة من بحر الحزن في ركوب سفينة الرضا، والسلامة من بحر اللهو في ركوب سفينة الذكر، وأنشد بعضهم. اهـ.

.التفسير المأُثور:

قال السيوطي:
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}.
أخرج ابن أبي حاتم، عن مطر أنه كان لا يرى بركوب البحر بأسًا، وقال: ما ذكره الله في القرآن إلا بخير.
وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر: أنه كان يكره ركوب البحر إلا لثلاث: غازٍ أو حاج أو معتمر.
وأخرج عبد الرزاق، عن علقمة بن شهاب القرشي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدرك الغزو معي فليغز في البحر، فإن أجر يوم في البحر كأجر يوم في البر وإن القتل في البحر، كالقتلتين في البر، وإن المائد في السفينة، كالمتشحط في دمه، وان خيار شهداء أمتي أصحاب الكف، قالوا، وما أصحاب الكف يا رسول الله؟ قال: قوم تتكفأ بهم مراكبهم في سبيل الله».
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص، عن كعب الأحبار: إن الله قال للبحر الغربي حين خلقه: قد خلقتك فأحسنت خلقك وأكثرت فيك من الماء وإني حامل فيك عبادًا لي يكبروني ويهللوني ويسبحوني ويحمدوني، فكيف تعمل بهم؟ قال: أغرقهم، قال الله: إني أحملهم على كفي، وأجعل بأسك في نواحيك، ثم قال للبحر الشرقي: قد خلقتك فأحسنت خلقك، وأكثرت فيك من الماء، وإني حامل فيك عبادًا لي يكبروني ويهللوني ويسبحوني ويحمدوني، فكيف أنت فاعل بهم؟ قال أكبرك معهم، وأحملهم بين ظهري وبطني، فأعطاه الله الحلية والصيد الطيب.
وأخرج البزار، عن أبي هريرة قال: كلم الله البحر الغربي، وكلم الشرقي، فقال للبحر الغربي: إني حامل فيك عبادًا من عبادي، فما أنت صانع بهم؟ قال: أغرقهم. قال: بأسك في نواحيك، وحرمه الحلية والصيد وكلم هذا البحر الشرقي، فقال: إني حامل فيك عبادًا من عبادي، فما أنت صانع بهم؟ قال: أحملهم على يدي، وأكون لهم كالوالدة لولدها، فأثابه الحلية والصيد.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله: {وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحمًا طريًا} يعني حيتان البحر {وتستخرجوا منه حلية تلبسونها} قال هذا اللؤلؤ.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السدي في قوله: {لتأكلوا منه لحمًا طريًا} قال هو السمك وما فيه من الدواب.
وأخرج ابن أبي شيبة عن قتادة: إنه سئل عن رجل قال لامرأته: إن أكلت لحمًا فأنت طالق؟ فأكلت سمكًا، قال: هي طالق. قال الله: {لتأكلوا منه لحمًا طريًا}.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن عطاء قال: يحنث قال الله: {لتأكلوا منه لحمًا طريًا}.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن أبي جعفر قال: ليس في الحلي زكاة، ثم قرأ: {وتستخرجوا منه حلية تلبسونها}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وترى الفلك مواخر} قال جواري.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وترى الفلك مواخر فيه} قال تمخر السفن الرياح، ولا تمخر الريح من السفن، إلا الفلك العظام.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن عكرمة {وترى الفلك مواخر فيه} قال تشق الماء بصدرها.
وأخرج ابن ألمنذر وابن أبي حاتم، عن الضحاك في قوله: {وترى الفلك مواخر فيه} قال السفينتان تجريان بريح واحدة؛ كل واحدة مستقبلة الأخرى.
وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: {وترى الفلك مواخر فيه} قال تجري بريح واحدة مقبلة ومدبرة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السدي في قوله: {ولتبتغوا من فضله} قال هو التجارة والله أعلم بالصواب. اهـ.